بيتهوفن ثائر _عبقري _بائس

ولد بيتهوفن في بون في ألمانيا عام 1770، كانت بون في ذلك الوقت مركز ألمانيا الثقافي الذي انطلقت منه إلى أوروبة أفكار العلم والفلسفة والمنطق والديمقراطية المناهضة للملكية والكنيسة والأرستقراطية. وأثرت تلك البيئة بشكل كبير على نشأته. تأثر بيتهوفن بموتزارت الذي ولد قبله بأربعة عشر عاماً والذي تحول إلى الماسونية كرد فعل على التمييز الطبقي الذي كان يحكم المجتمع. لم يسلم الموسيقيون والمؤلفون في ذلك الوقت من التمييز فكانوا خدماً أو موظفين يعزفون للطبقات الملكية والأرستقراطية في المسارح. موتزارت كان يعزف في أول شبابه لكبير الأساقفة كولوريدو وهو جالس بجانب الطباخين.
كبر بيتهوفن في جو يحث الموسيقيين والمؤلفين على تغيير نمط حياتهم. كان والده يدرس المويسيقى لطبقة النبلاء وحين بدأ بيتهوفن بالعزف أخذه والده ليعزف أمامهم. في كثير من الأحيان كان والد بيتهوفن يكذب بشأن عمر ابنه لأنه أراد أن يبدو طفلاً معجزة لكن بيتهوفن لم يكن بحاجة إلى ذلك لأن ما قدمه بغض النظر عن عمره كان يبشر بعبقرية كبيرة، تلك العبقرية تم صقلها وإظهارهاعلى يدي مدرسه "كريستيان نيف" الذي كان يقول "لا يستطيع الموسيقي أن يحرك مشاعر الآخرين إن لم تكن مشاعره تتحرك، العزف يجب أن يكون من الروح".

كتب بيتهوفن أول عمل للأوركسترا تحت اشراف نيف عندما كان في الرابعة عشر من عمره. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية كان بيتهوفن في الثامنة عشر، أثرت الثورة بشكل عميق على بيتهوفن إضافة إلى أنها أتت ببارقة تحرير الموسيقيين من الاعتماد على الطبقة المالكة. توقف في ذلك الوقت كل من "هايدن"، "موتزارت" و"بيتهوفن" عن العمل لدى الطبقة الملكية وقام بيتهوفن بتأليف مقطوعة لآلة الكمان تعزف والكمان بشكل مقلوب كتعبير داخلي عن ثورته واعجابه بالثورة.

أدرك بيتهوفن أنه كي يستطيع متابعة مساره الفني عليه الذهاب إلى فيينا، عاصمة الموسيقى في أوروبة ومدينة عباقرة الموسيقى في ذلك الوقت (بيتهوفن – موتزارت) ومن أتى بعدهم (شوبرت – ستراوس). كان بيتهوفن مدفوع بالفردية الإنسانية هارباً من العالمية الإنسانية وكان للفرد في نظره القيمة الكبرى. في تلك الأوقات كان أكثر الشخصيات إثارة للجدل في أوروبا هو نابليون الذي لم يكن فرداً ثائراً فحسب بل ثائر منتصر يحاول توحيد مقاطعات أوروبة ويكتب حقوق الإنسان بصيغة جديدة فيها. كان لانتصارات نابليون وما تمثلها الأثر الأكبر على بيتهوفن سياسياً وثقافياً وعلى الصعيد الشخصي أيضاً. أكثر ما كره بيتهوفن هو تعليم الطلاب الأرستقراطيين والأغنياء الذين كانوا يسعون لدراسة الموسيقى غالباً بسبب ما تقتضيه عليهم مكانتهم الاجتماعية. أحد طلابه قال أنه أتى يوماً إلى منزل بيتهوفن وكان يدندن لحناً فألقى بطالبه جانباً وبدأ بعزف اللحن ونسيه تماماً لأكثر من ساعة وعندما انتهى قام بصرف تلميذه. الغريب عن الصورة الشائعة عن موسيقيين كبيتهوفن أنه كان لا يأبه لأخطاء طلابه الفادحة في النغمات بل يقول "النغمات يمكن تعلمها فيما بعد، المهم أن يعزف الإنسان بصدق". سلوك بيتهوفن العاطفي المتطرف والغريب لم يكن بسبب مشكلة نفسية لديه بل نتيجة لإيمانه بأهمية الفردية – الإيمان الذي زاده انتصار نابليون في تلك الفترة. كان بيتهوفن يرقص فرحاً عندما اقترح عليه السفير الفرنسي في فيينا أن يقدم سيمفونيته الثالثة (إيرويكا) EROICA إلى نابليون. تلك السمفونية – التي عزفت على سلم موسيقي مختلف عما هو سائد – كانت من أكثر أعماله وأطولها وأكثرها تعقيداً، ووضع فيها بيتهوفن كل عمقه. روت (إيرويكا) قصة كاملة بافتتاحيتها التي تحتفل بالاتصارات العسكرية، والمارش الجنائزي الذي يحتفل بموت القيم القديمة. كان بيتهوفن يتحدث فيها عن قصص انتصارات نابليون بطريقته الخاصة. لكن قصة السمفونية الثالثة انقلبت بشكل كبير في اليوم الذي كان بيتهوفن سيرسلها إلى نابليون حين دخل أحد أصدقائه عليه مخبراً إياه أن نابليون تخلى عن مبادئة الجمهورية واعلن نفسه امبراطوراً. فور سماعه النبأ ثار بشكل جنوني وقام بتمزيق عنوان سمفونيته واسم نابليون عليها. الطريف أيضاً أن سمفونيته الثالثة وبعد أن غيَّر الإهداء مُنعت في براغ بحجة كونها "فاسدة أخلاقياً".

لم يكن نابليون مشكلة بيتهوفن الوحيدة، فقد بدأ الطرش التدريجي الذي أصابه في منتصف العشرينات من عمره يؤثر عليه بشكل سلبي جداً فيشعر بالألم من الأصوات المرتفعة ويخاف من من نظرة المجتمع إليه بسبب مرضه. بقي بيتهوفن عامين كاملين يحاول تجنب المناسبات الإجتماعية لخوفه من أن يقول الناس عنه أنه أطرش، ومكث في بيته يكتب أوبرا أسماها "فيديليو".

كانت "فيديليو" بمثابة محاولة لبيتهوفن من أجل فهم الأحداث التي جرت في حياته. اثناء تأليفها أدرج قولاً في أوراقه اقتبسه من الشاعر فريدريك شيلر "الشحاذ أخ للأمير". وأعاد كتابتها عدة مرات وفي كل مرة كانت أكثر ثورية حتى أن أحد النقاد قال في ذلك الوقت "كلما أعاد بيتهوفن كتابة الأوبرا تلك أجد فيها علماً جديدا للثورة الفرنسية". في ذلك الوقت كان بيتهوفن يؤلف أيضاً سمفونياتان إضافيتان: "الخامسة" التي عزفت نهاية عام 1806 والسمفونية السادسة التي كانت تحكي قصة مزارعين فرحى ينتظرون تحسن الأجواء ليبدأوا الحصاد. لا يمكن الجزم بشكل دقيق بما كان يقصده بيتهوفن لكنه كان يكتب عن المزارعين عام 1808 في فيينا، وأغلب الاعتقاد أن القصة التي حاول تقديمها لم تكن بتلك البساطة بل كان المزارعون في نظره رمزاً للثورة التي اعتمدت عليهم كثيراً لتحقيق نجاحها. طلب بيتهوفن الزواج من فتاة في الثامنة عشر لكنها رفضته في الوقت الذي كانت فيه فيينا تئن تحت مدافع نابليون. الألم الشديد في أذني بيتهوفن والذي سسببه صوت المدافع دفعه إلى المكوث في قبو منزله مغطياً أذنيه بالوسائد يوم دخل الجيش الفرنسي فيينا.

كل تلك الحوادث المجتمعة في حياته أدت إلى سلوك كسلوك العباقرة، كان يشرب الكثير من القهوة وكان يشترط أن يكون كأس القهوة محضراً بستين حبة بن تماما. كان يغضب إن وصلته رسالة أو بطاقة معايدة. وفقاً لمساعده فقد كان يمضي أغلب وقته في غرفته يدندن ألحاناً بصوت مرتفع ويسكب الماء على يديه بكمية كبيرة حتى أن سكان الشقة أسفله كانوا بتذمرون من تسرب الماء. كانت غرفته قذرة ومهملة وفوضوية جداً. كان يشتري البيض ويقوم بكسره على رأس صاحبة المنزل إن لم يكن طازجاً. حاول أصدقاؤه مساعدته بشكل دائم لكن بدون فائدة. في عام 1812 كتب سلسلة من الرسائل إلى حبيبة بقيت مجهولة وبقيت بعيدة عنه. تلك الإحباطات العديدة في حياته أثرت على مشاعره بشكل كبير وبدأ يكره نابليون بالدرجة التي أحبه بها سابقاً ورفض عدة عروض للعمل كمؤلف للامبراطور.

في عام 1823 أنهى بيتهوفن سمفونيته التاسعة – الأطول بين كل أعماله – والتي كانت بعنوان "كل البشر أخوة" كلحن لشعرية فريدريك شيلر "إلى السعادة"Ode to Joy والتي يضيء فيها شيلر الرغبة الإنسانية بالسعادة بالرغم من الآلام. هذه السمفونية تعيد للأذهان مقولة "الشحاذ أخ للأمير" التي أحبها. يوم عزفت السمفونية لأول مرة كان المسرح مكتظاً بالناس في حين أن القسم المخصص للطبقة المالكة كان فارغاً. كانت تلك أروع أعماله وأجملها لحنا وأكثرها شهرة. هذا اللحن الذي أصبح فيما بعد نشيداً للاتحاد الأوروبي.

بالرغم من النجاح الذي حققه بيتهوفن في ذلك الوقت إلا أنه كان يعاني من الفاقة المادية ولم تكن واردات حفلاته لتغطي تكلفتها. إضافة إلى أنه أصبح أطرش تماماً واضطر لحمل دفتر كي يستطيع التواصل مع الناس، كان يشرب الحكول بشكل مفرط وذو مزاج عصبي وكانت رفقة الناس تثيره فيفضل إمضاء وقته وحيداً. ألف بيتهوفن في حياته عشرات المقطوعات والسمفونيات والأوبرا وعشرات من الأغاني الاسكوتلندية. أما أعماله الغير مكتملة فهي أكثر بكثير، ورغم ذلك كان يقول أنه لم يؤلف شيئاً يذكر بعد.انتهت حياة بيتهوفن عام 1827 بسبب ما كان يعتقد أنه فشل في الكبد والكلى *

حتى موته عام 1827 كان بيتهوفن قادرا على كتابة ألحان أصيلة وعميقة ملهماً بالبيئة والزمن الذي عاش فيه حتى أنه في أسوأ لحظات كآبته استطاعت موسيقاه أن توصل تلك الكآبة غلى المستمعين. كان "بوب مارلي" عصره لما يمثله من ثورة موسيقية - مثال الموسيقي الثائر والمتمرد. حياة بيتهوفن لم تكن حياة إنسان عبقري فقط بل عبقري مليء بالعاطفة، مشبع بأفكار الثورة الفرنسية وفترة حكم نابليون.كانت سيرة بيتهوفن من أكثر السير تعاسة بالنسبة لعبقري ابتلي بالعديد من المصائب حتى موته. الآن، وعندما يتحدث أحد عن بيتهوفن فإن أول ما يخطر ببال المستمع هو تلك الموسيقى "الأرستقراطية الجافة والتقليدية" التي تدعى بالموسيقى الكلاسيكية - أناس جديون بشكل ممل يرتدون بذات رسمية ويجلسون في مسارح فاخرة ليعزفوا لجمهور ليس بأقل جدية أو ترف. هذه الصورة التي يقدمها الإعلام بشكل عام عن الموسيقى الكلاسيكية وبيتهوفن بشكل خاص أبعد ما تكون عن حقيقة ذلك الرجل العبقري الثائر بيتهوفن.

***

* من بضع سنين أعيد البحث في سبب موت بيتهوفن واستنتج المحللون وجود نسبة رصاص عالية في جسمه قد تكون سبب موته. خرجت نظرية المؤامرة فاعتبر أنه مات مسموماً بالرصاص. البعض أيضاً اعتقد أن الماء الذي كان يشربه ملوثاً

هدا هو بيتهوفن العبقري